منذ الغزو الأمريكي للعراق، صارت أموال الشعب العراقي نهباً مستباحاً، ما بين الاحتلال الذي افتُضحت ممارساته وسرقاته للأموال العراقية والتلاعب بمبيعات النفط، وما سمي زوراً بأموال إعادة إعمار العراق، وبين شيوع الفساد في الإدارات العراقية المتعاقبة التي نصبها المحتلون.
وباعتراف منظمة الشفافية الدولية فإن تقاريرها صنفت حكومات ما بعد الاحتلال في العراق بين أسوأ الحكومات في العالم وأكثرها فساداً.
فقد بات النهب يحدث علناً، حيث تتسلط على البلاد طغمة عاتية لا ذمة لها ولا ضمير، وهذا ما حدث ويحدث في العراق اليوم.
أين إختفت 4 مليارات دولار أيام بريمر؟ أعلن أعضاء في الكونجرس الأمريكي إرسال مجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي الأمريكي) أموالاً قدرت بأكثر من أربعة مليارات دولار نقداً إلى بغداد قبل وقت قصير من تسليم الولايات المتحدة ما سميت بالسيادة إلى العراقيين.
وأرسلت الأموال التي كانت تحتجزها الولايات المتحدة من إيرادات صادرات النفط العراقية، وأموال من برنامج النفط مقابل الغذاء التابع للأمم المتحدة، وأرصدة عراقية صادرتها الإدارة الأمريكية من مختلف دول العالم، كان يملكها الرئيس العراقي السابق في صناديق ضخمة على متن طائرة عسكرية.
وأفاد رئيس لجنة الإصلاح الحكومي والمراقبة في مجلس النواب هنري واكسمان بأن أوراقاً مالية وزنها 363 طناً شُحنت للعراق في أكبر شحنة نقدية على الإطلاق لمجلس الاحتياطي الاتحادي. وتساءل واكسمان في جلسة استماع لمراجعة إهدار أو تحايل أو إساءة استخدام محتملة للأموال في العراق عن العقلانية في إرسال 363 طناً من النقود إلى منطقة حرب.
وقال أعضاء اللجنة إن 1.5 مليار دولار شحنت في 12 ديسمبر 2003م وهو أكبر مدفوعات من النقد الأمريكي في تاريخ مجلس الاحتياطي الاتحادي حتى ذلك التاريخ. كما أرسل ما يزيد على 2.4 مليار دولار في 22 يونيو 2004م، و1.6 مليار عقب ذلك بثلاثة أيام.
وذكر رئيس سلطة الائتلاف المؤقتة لإدارة العراق بول بريمر أن تلك الشحنات أُرسلت بطلب من وزير المالية العراقي لتمويل نفقات حكومية.
من جهته حذر المفتش الخاص بعمليات إعادة الأعمار في العراق ستيوارت بوين من أن عمليات تهريب النفط وأشكال الفساد الأخرى تهدد وجود الحكومة العراقية. وأشار بوين إلى أن الفساد الذي يكلف العراق سنوياً أربعة مليارات دولار، وهو ما يعادل 10% من إجمالي الدخل القومي للبلاد وصل إلى مستويات تهدد فرص بقاء الحكومة الحالية. وقال بوين إن عمليات تهريب النفط التي يتورط فيها مسؤولون عراقيون توفر دعماً للمليشيات المسلحة بنحو مائة مليون دولار سنوياً.
يُذكر أن مكتب مفتش عمليات إعادة الإعمار أحال 25 قضية فساد إلى وزارة العدل الأمريكية منذ تأسيسه قبل نحو ثلاثة أعوام
24.7 مليار دولار ضاعت
أما مكتب المفتش العام بوزارة النفط العراقية فقد قَدّرَ ما فقده العراق في السنوات الثلاث الماضية من عائدات نفطية محتملة ب 24.7 مليار دولار، وأن ذلك حال دون البدء في مشروعات جديدة. وعزا مكتب المفتش العام تضاؤل إنتاج النفط والصادرات إلى التقاعس عن إتمام مشروعات مزمعة للتوسع في الطاقة الإنتاجية العراقية.
وقال المكتب في تقرير له: إن ضعف الإدارة الفنية والتقاعس عن تبني وسائل حديثة للحفر واستخراج النفط أدى إلى خسارة الكثير من الآبار المنتجة بحقل جنوب الرميلة وحقول نفط في الشمال بسبب ارتفاع مستويات المياه.
يشار إلى أن العراق في ظل الغزو الأمريكي وحكوماته التابعة يقتصر إنتاجه الفعلي على 1600 بئر من بين 2300 .
ووجه المكتب اللوم للمسؤولين الأمريكيين والعراقيين على حد سواء، مشيراً إلى أن الكثير من الوعود الأمريكية لم ينفذ، وانتقد وزارة النفط العراقية لافتقارها للتنسيق وضعف إشرافها على الشركات التابعة لها.
وكالة تدقيق حسابات الإعمار
الكونجرس وافق على تمديد عمل تدقيق حسابات إعادة الإعمار في العراق الذي تتولاه وكالة متخصصة تابعة لوزارة الدفاع (البنتاجون) كان من المفترض حلها في أكتوبر الأول الماضي، بعد تبني مجلس النواب مشروع قانون نهائي في هذا الشأن. ويتيح القانون المعتمد والجاهز للإصدار من قبل الرئيس جورج بوش، استمرار عمليات تدقيق الحسابات حتى نهاية 2008م، لاغياً نصاً ورد في موازنة الدفاع دون ملاحظته قبل بداية نوفمبر الماضي. وقالت العضو في مجلس الشيوخ الجمهورية "سوزان كولينز" التي كانت من بين معدي مشروع القانون : إن الوكالة أعادت للمكلفين الأمريكيين ما يزيد على 25دولاراً عن كل دولار أُنفق في عمليات مراقبة وتحقيقات.
وأشارت إلى أن عمل الوكالة تضمن إدانات وأحكاماً ضد أفراد احتالوا على المكلفين، وليس معقولاً التجاوز عن هذه المراقبات الحازمة، في حين يواصل المكلفون الأمريكيون دفع مليارات الدولارات لمشاريع إعادة إعمار في العراق.
وقد دافعت وزارة الخارجية الأمريكية الشهر الماضي عن إغلاق مكتب المفتش العام لإعادة إعمار العراق، والمكلف بالإشراف على كيفية استخدام 32 مليار دولار استثمرت في البلاد قائلة إن لديه وقتاً كافياً لإنجاز عمله.
وكان من المفترض أساساً إغلاق مكتب المفتش العام ستيوارت بوين بعد عشرة أشهر من إنفاق 80% من أموال أمريكية لإعادة إعمار العراق.
موجة عارمة من السرقات
موجة من السرقات النفطية بدأت إثر الغزو بتسلم سلطة التحالف المؤقتة إدارة البلاد، وما زالت تداعيات تلك الموجة مستمرة حتى اليوم. وقد ورد بعض حيثياتها في ثلاثة تقارير نصف سنوية أصدرتها شركة التدقيق العالمية KPMG، غطى الأول والثاني منها فترة سلطة التحالف بإدارة السفير بول بريمر من22 (مايو) 2003م حتى 28 (يونيو) 2004م، والتقرير الثالث غطى فترة الحكومة العراقية المؤقتة برئاسة الدكتور إياد علاوي من 29 (يونيو) إلى 31 (ديسمبر) 2004م وقد تضمن التقريران الأول والثاني هجوماً شديداً على سلطة التحالف؛ لسوء إدارتها صندوق تنمية العراقDFI الذي كان يموَّل بصورة رئيسة من واردات النفط العراقي، ومن تحويلات برنامج النفط في مقابل الغذاء وكذلك من موارد عراقية أخرى.
لقد بلغ مجموع واردات الصندوق بين 22 مايو 2003م و29 يونيو 2004م نحو 21 بليون دولار، جاء 98% منها من صادرات العراق النفطية، وتحويلات برنامج النفط في مقابل الغذاء، وأرصدة العراق المجمدة بالخارج.
ويمكن تلخيص نقاط الاعتراض التي أثارها المدققونKPMG وكذلك نقاط الاعتراض التي أثارتها IAMB المكلفة بالإشراف على صندوق تنمية العراق في النقاط التالية:
أولاً: عدم وجود عدادات لقياس كميات النفط العراقي المصدرة من الجنوب، إذ على رغم طلب الهيئة الدولية من سلطة التحالف ضرورة استعمال العدادات، فإن الأخيرة تهاونت في الأمر ولم تقم بذلك، ما أدى إلى استحالة ضبط كميات النفط العراقي المنتجة والمصدرة طوال فترة بقاء السلطة المذكورة.
ثانياً: اتباع سلطة التحالف وسيلة مقايضة المنتجات النفطية ببعض المستوردات، ولا يزال العراق يستورد الكهرباء من دولة مجاورة عن طريق المقايضة، حيث يصعب التأكد من أنه يحصل على قيمة عادلة بهذه الطريقة في مقابل صادراته النفطية.
ثالثاً: منح الكثير من العقود على أسس غير تنافسية يصعب معها معرفة عدالة تلك العقود.
رابعاً: أن مجلس مراجعة البرامج PRB التابع لسلطة التحالف والمسؤول عن دراسة مشاريع الصرف من صندوق تنمية العراق والموافقة عليها لم يحتفظ بسجلات وافية تبرر قبول مشاريع الصرف أو رفضها، كما لم يتبع المجلس نظام سلطة التحالف (رقم 3) الذي نص على وجوب حضور 70% على الأقل من أعضاء المجلس، أي ثمانية من أصل 11 عضواً يتكون منهم المجلس، من أجل الموافقة على عشرة برامج للصرف. فقد تمت الموافقة على عشرة برامج للصرف، دون حضور العدد الأدنى من أعضاء المجلس. كما تمت إحالة أحد المشاريع من دون الحصول على موافقة المجلس، وكذلك تمت الموافقة على برامج للصرف، من دون اجتماع المجلس بصورة رسمية وحتى من دون تدوين ذلك الأمر لاحقاً في سجلات المجلس.
خامساً: أن التعاقد الخاص بالمشاريع التي كان المجلس يوافق عليها والتي كانت تنفذها وحدة التعاقد CU التابعة لسلطة التحالف كان يتم على أساس اعتباطي وبغياب الطرق الأصلية في الكثير من الحالات. كما أن التبدل السريع والمتكرر في موظفي سلطة التحالف أربك المعرفة اللازمة بماهية العقود وأضعف الرقابة على تنفيذها.
سادساً: انعدام الرؤية الواضحة لدى موظفي سلطة التحالف بخصوص واجباتهم ومسؤولياتهم، مع عدم كفاية النظم الحسابية، وعدم تطبيق شروط التعاقد في صورة عادلة ومتساوية على المقاولين وعدم كفاية مسك السجلات. إضافة إلى قلة السيطرة على الصرف من جانب الوزارات العراقية، وعدم كفاية سجلاتها الحسابية والانحراف، وعدم تطبيق الأساليب القانونية التي وضعت أساساً لضمان المنافسة العادلة، وكذلك غياب سجلات الرواتب والأجور الخاصة بتلك الوزارات.
كما وافقت سلطة التحالف بصورة متسرعة على مقاولات قيمتها نحو 1.9 مليار دولار قبل تسليم السلطة إلى الحكومة العراقية الموقتة. وحري بالذكر أن تلك العقود تُلزم السلطات العراقية الجديدة تنفيذها بموجب القانون.
أما التقرير الثالث، والذي صدر بتاريخ 23-5-2005م وغطى فترة الحكومة العراقية الموقتة حتى 31-12-2004م، فقد ذكر أن السلطات العراقية الجديدة سارت في إدارة ثروة العراق النفطية على النهج الخاطئ نفسه، المتسم بالإهمال الذي سارت عليه سلطة التحالف المؤقتة من قبل.
ويمكن تلخيص أهم نقاط الاعتراض التي وردت في التقرير بما يلي:
أولاً: أن النفط العراقي مازال يخضع لعمليات التهريب، وأن صفقات المقايضة التي يصعب تتبعها مازالت مستمرة، كما أن الأعمال والمشاريع مازالت تحال إلى المقاولين على أسس غير تنافسية ولا يمكن تبريرها.
ثانياً: أن أجهزة قياس إنتاج وتصدير النفط مازالت غير قائمة، رغم مرور سنة على وعد السلطات الأمريكية بتأمينها بصورة عاجلة.
ثالثاً: اختفاء 618 ألف طن من النفط الأسود قيمتها 69 مليون دولار، عند مقارنة الكميات المنتجة بالكميات المباعة خلال الفترة من 29 (يونيو) إلى 31 (ديسمبر) 2004م.
رابعاً: قيام شركة تسويق النفط بإيداع 97.8 مليون دولار من العوائد النفطية بصورة غير أصولية في ثلاثة حسابات مصرفية غير مرخصة في العراق والأردن، كما قامت ببيع ما قيمته 461 مليون دولار من النفط بموجب عقود مقايضة، رغم موافقة السلطات الأمريكية على إنهاء مثل تلك العقود؛ لعدم إمكان متابعتها بصورة قانونية.
خامساً: إخفاق الوزارات العراقية، في معظم الأحيان، في إحالة المقاولات على أسس شفافة، وكذلك إخفاقها في متابعة تنفيذ المشاريع بعد الإحالة للتأكد من إكمالها.
سادساً: عدم توفير سجلات حسابية كاملة، كما أن تحضير هذه السجلات كان يتأخر لشهور عدة مع عدم تطابق الحسابات في ما بينها.
وجاء في تقرير منفصل أصدرته هيئة الرقابة الدولية IAMB أن وكالة تدقيق العقود التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية حاولت مع الأسف إخفاء 200 مليون دولار استُوفيت زوراً في شكل over charge من صندوق تنمية العراق لحساب شركة هاليبرتون، وهي تعمل في العراق على أسس غير تنافسية.
يبدو من هذه التقارير الثلاثة أن النفط العراقي استمر كالعادة ليكون مادة للسرقة، سواء عن طريق التهريب أو تخريب عدادات الإنتاج والتصدير. كما أن المال العام (نحو 21 بليون دولار) تعرض قسم منه، وبأساليب مختلفة، للسرقة أيضاًَ. كما أسيء استغلال ذلك المال العام. وبعد مجيء الحكومة العراقية الموقتة، تعرض الشعب العراقي لمصيبة أكبر، وهي تفشي مرضَيْ السرقة والفساد في طول البلاد وعرضها، وفي الحكومة من وزيرها إلى صغيرها.
إن معالجة هذا المرض الخطير تتطلب جهوداً جبارة تبدأ بتشكيل هيئة مستقلة، وذلك بأمر من الأمم المتحدة، على غرار الهيئة الأخيرة التي دققت بفساد إدارة برنامج "النفط مقابل الغذاء"، لكي تتقصّى الحقائق وتكشف الفساد والفاسدين، وتحيل إلى القضاء جميع الذين مارسوا الفساد منذ سقوط النظام حتى الوقت الحاضر، حتى وإن هرب هؤلاء إلى أقاصي الأرض. إن الشعب العراقي كان يتطلع، بعد سقوط نظام صدام، إلى سلطات نزيهة تقطع دابر الفساد الذي مارسه ذلك النظام، لا أن تحذو حذوه.
مــنــــقــــول